عن فلسفة الأزياء والملابس
عن فلسفة الأزياء والملابس
شمس الدين

عندما درست رسم الباترون لفترة, وجدت أن 70% من المنهج مُنصَب على الملابس النسائية, والباقي لملابس الرجال والأطفال.. إذن فهو فن حريمي بامتياز.. فغالبًا ما تكون ملابس الرجال عبارة عن زيّ موحد تبعًا للمهنة التي يعملون بها (جنود – مهندسون – عمال في مصانع – أطباء – قضاه – رجال دين – حتى في الطبقة الحاكمة أو الأرستقراطية كان الزي عبارة عن انعكاس للمكانة الاجتماعية), لذلك فتتبع موضة وأزياء النساء يكون أهم يليه في الأهمية ملابس الرجال.
هذا بالمناسبة لا يوجد به أي نوع من التجني أو التنميط أو النظرة القاصرة أو شابه من الكلام المعتاد أن يُقال إن تعلق الحديث عن الملابس… لماذا؟؟
لأنك في المناسبات العامة أو في أي مجال عام لن تكون هناك فرصة للحديث مع الجميع كي تتبين شخصياتهم, فيكون الزي هو رسالة اجتماعية صامتة للتعريف المبدئي بالشخص… ليس هو كل شيء بالطبع, ولكن في نفس الوقت لا يمكن بأي حال إغفاله.
فن تصميم الباترون والأزياء عمومًا بهذا الشكل الحديث المدروس من الفنون الغربية (أو هذا ما قرأته) وكانت أزياء النساء فيما مضى أكثر احتشامًا ككل, وكلما زاد تعقيد الملابس (خاصة في عصر النهضة الأوروبي) كلما كانت تعكس مكانة المرأة الاجتماعية, فكانت الفساتين ذات جيبات منفوشة للغاية وتتكون عن عدة طبقات, تناسب القصور الواسعة والحفلات الراقصة والدنيا الخالية من الزحام تقريبًا.
وظلت مرحلة الاحتشام لفترة, حتى أنني أذكر صورة من أوائل القرن الماضي للاعبات تنس كنّ يرتدين فساتين ذات جيبات طويلة وكانت ملابسهنّ غريبة غير مألوفة, ولكن بمرور الوقت في القرن الماضي تغيرت فلسفة الملابس كثيرًا (خاصة فيما يتعلق بالنساء), حتى وصلنا لمرحلة ما بعد الستينات وثورة الشباب في الغرب… فأصبح مصطلحwell undressed woman كما قال د. عبد الوهاب المسيري – رحمه الله – هو السائد, تعكس فلسفة مغزاها… أن أظهر ما أمتلك من جمال, فجسد المرأة من أجمل ما خلق الله فعلًا.
وعليه ظهرت نظريات للألوان وتقسيمات لشكل الجسد وكيفيه مداراة العيوب التي توجد عند البعض بالملابس, وأصبحت الأزياء تجارة في حد ذاتها وتراجعت القيم القديمة (مثل الاحتشام) وظهرت قيم جديدة تزكي استهلاك الملابس لتصب في خانة الاستهلاك وتدعم أن الاستهلاك هو أحد معايير التحضر والرقي, ومنها أيضًا أنه إن كان لدينا شيء جميل فلنظهره ولنتمتع بالجمال, وأنَّ الاحتشام مرادف لكبر السن وكلما كانت الفتاة أصغر سنًا كانت أكثر قدرة على عرض جمالها والتباهي به, كما أصبح التحرر من أي سلطة هو مفرد آخر من مفردات العصر تعكسه التحرر من القيود الأخلاقية للملابس, فأصبح الجسد مجرد شيء جميل, لا تتجاوز النظرة أبعد من ذلك… وأصبحت حفلات المناسبات السينمائية اليوم هي البديل للحفلات الراقصة الأرستقراطية فيما مضى.
مصمم الأزياء الناجح هو من يمكنه ابتكار ملابس تناسب من تأتي إليه, فيظهر مكامن الجمال ويخفي العيوب إن وجِدَت, ويختار ألوان تناسب العميلة, وتكون تلك الاحتفالات بالنجوم, بالإضافة لعروض الأزياء, هي ما تحدد موضة العام, بل والفصل (الصيف والخريف والشتاء والربيع) وتدخل تلك العملية في منظومة الاستهلاك, فألوان هذا العام وموضاته تختلف عن ألوان العام السابق أو التالي, ويصبح خارج الأناقة كل ما لم تتبع تلك الموضة وألوان الموسم, كما يتميز الغرب بالدقة والتحديد, فهناك ملابس لكل مناسبة تقريبًا, ملابس للبيت وملابس رسمية للعمل أو للدراسة وأخرى رياضية للنادي وملابس للسهرات الرسمية وأخرى للملاهي الليلية وملابس للبحر إلخ.
خطورة ألا تكون هناك مرجعية ثابتة, يعيد لأذهاننا ما حدث للغرب عمومًا, نعم يتم ارتداء ملابس محتشمة لأن العُرف يقتضي ذلك… ولكن ما إن تغير الذوق العام فلن يكون هنا حدود لخلع الملابس كما حدث هناك, وتُرك الأمر فقط للقانون وللضمير الشخصي عند البعض ممن لم تتلوث فطرتهم..
بالنسبة إلينا, فهناك مرجعية متجاوزه فيما يتعلق بفلسفة الملابس لدى المؤمنين بالدين الإسلامي عمومًا, وهي ما تمنع تحول موضات الملابس رأسًا على عقب مثلما حدث في الغرب, فكان فيما مضى الاحتشام دليل علي الرقي, ولكن اليوم أصبح يُنظًر للاحتشام نظرة اجتماعية ونفسية سيئة… الأمر ليس كذلك, فالفلسفة المهيمنة المتجاوزة هي التستر والاحتشام, وقيمة جسد المرأة لا يُنظر إليه على أنه مجرد “شيء” من أجمل “الأشياء” التي خلقها الله, (لابد من عرضها أو إخفائها تمامًا… لذا لا أستسيغ النقاب من الناحية الفلسفية لأنه أيضًا ينظر للمرأة على أنها شيء ويمحو إنسانيتها تمامًا بمحو وجهها المميز لها, وإن كنت أتقبله كمكرمة شرعية فربما تفكر من ترتديه أنها لا تكون متاحة للجميع فهذه قناعات شخصية بحتة), فالأمر إذن ليس مجرد نظرة جزئية تقف عن حرية ملابس أو ما شابه, ولكنه جزء من منظومة إنسانية متكاملة, ولأن المسالة كما هي غالبية المسائل تُنظَر لها من خلال الثنائية فضفاضة, فلم يحدد الشرع زيًا معينًا بعينه (وإلا فقد الإسلام قدرته وجدارته ليكون دين خاتم مناسب لأزمنة وأمكنه مختلفة, فهناك بعدًا حضاريًا مختلف مميز لكل منطقة لابد أن يُحترم ولكن خلال الإطار المنظم الأساسي الذي يُحدده الإسلام) ولكنه اكتفى بتحديد عدة مواصفات لهذا الزي (بالنسبة للنساء لأنها كما قلت قضية نسائية بامتياز).
بالنسبة للأزياء في مصر فهي – شأنها كشأن أغلب الأشياء – بدون هوية, فالغالبية عبارة عن مجرد مسخ لا معني له ولا يعكس أي قيمة حضارية في رأيي, فغالبية الفتيات لا تدري لماذا تفعل أو ترتدي زيًا معينًا إلا أنه الموجود في السوق, و”الموضة كدا”, أو كانت فكرة جزئية في أنها ترى في ذلك انعكاس لحريتها… دون إدراك للنموذج المعرفي الكامن وراء الملابس, فلا أدري هل هي تنتمي لمدرسة الاحتشام أم مدرسة عرض الجمال… فالغالبية ترتدي قطعة قماش على الرأس دون معنى حقيقي للاحتشام (ويؤسفني هنا أن أقول وأكرر لفظة احتشام فقدْ فَقَدَ الحجاب – للأسف الشديد – المعنى الضمني له من سوء تعامل الناس معه), كأن الفتاة عملت المفروض عليها وأبرأت ذمتها, وتريد – في نفس الوقت – أن تُقلد بشكل جزئي معنى عرض الجمال, فيتم ارتداء ما هو موجود في السوق بدون وجود أي نظرية للبس, فلا نجد تسترًا بأي حال ولا هو أيضًا إظهار للجمال من قريب أو بعيد, فقط يكون هناك تجميع لأجزاء لا علاقة لها ببعضها البعض, ولا يوجد حتى مراعاة لأبعاد الجسد نفسه أو مداراة للعيوب, فكثيرًا ما نجد ملابس لا تناسب الأجسام المصرية التي تميل للسمنة بأي حال من الأحوال, وأيضًا نجد أزياء تصلح للاحتفال أو السهر توجد بداخل الجامعة صباحًا, وللمفارقة العجيبة أني وجدت أن زي الطالبات الأجنبيات في الجامعة الأمريكية أكثر قبولًا ومنطقية من زي الطالبات المصريات في جامعة القاهرة الذي يصلح لحفل راقص صاخب ليلي! (و تفسير ذلك لدي أن فكرة الدقة في الزي غير موجودة عندنا وهي فكرة تلائم الذوق الغربي أكثر, فكثيرًا ما كنت أرى البعض يسير في الشارع بالبجامة وشبشب الحمام البلاستيك أو إسدال الصلاة البيتي أو أحدهم يتفرج من البلكونة علي الطريق العام ويقف بالفانلة الداخلية وغالبًا ما نجلس في البيوت بنفس ملابس النوم).
هناك تفسير آخر – لشيوع هذا النمط الغريب في الملابس – فالأزياء تُصنع, على مقاسات ثابتة, قد لا تناسب تلك المقاسات هذا التنوع في الأجساد خاصة المصري منها, فالمقاسات التي نصَنِّعْ عليها غربيٍة عمومًا فكان هناك عدد كبير من المقاسات لا يكون مناسبة للقياسات المحلية, ولذلك كانت الأزياء غير محددة المعالم التي تأخذ شكل جسد من ترتديه حلًا اقتصاديًا لصانعي الملابس, فهم يضمنون أقل فاقد ممكن وأن غالبية البضاعة سيتم بيعها, فهي تعالج مسألة الفروق الفردية المختلفة من شخص لآخر والتي تؤدي – فيما مضى – إلى مرتجع كبير.
ولا أريد أن يتم النظر لفن الأزياء الغربي بالأساس على أنه صنيعة الغرب, التي ظهرت في سياقها ولا تناسبنا, رأيي أن الأزياء ونظريات أشكال الجسد ومداراة العيوب هي منتج من المنتجات الإنسانية التي تُوظَّف تبعًا للسياق التي توضع فيه… فهي مجرد فرس تسير بك حيثما توجهها.
والحجاب – إلى جانب أنه فرض رباني – إلا أن له فلسفة كامنة وراءه, لابد من استيعابها جيدًا عند تنفيذ هذا الأمر الإلهي, فحتى لا يتحول إلى مجرد عادة خالية من المضمون, لابد من التركيز على “الفهم” لأنه تغيير جواني بالأساس وليس مظهريًا فقط… وعلى الرغم من أنه شيء يتعلق بالمظهر, إلا أنه الرسالة الأولي التي تتم بين الأفراد, ويكون متضمن شفرة اجتماعية مبدئيًة (لا يجيد الجميع قراءتها بالمناسبة, فليس كل الملابس سواء, حتى وإن اشتركت ظاهريًا في بعض السمات), فالزي يعكس شيئًا من الأفكار, وما تجمعت مع فتيات لهن نفس التفكير إلا ووجدت نمط أزيائهن يحمل شيئًا مشتركًا دون اتفاق… ومن خلال نمط معين من الملابس والألوان وطرق ربط الحجاب وأسلوب الكلام والسير… يمكنك أن تحدد المستوى الثقافي للمرء… هذا إن امتلك الشفرة الاجتماعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* بالنسبة لرأيي في النقاب أرجو أن لا يُثير حفيظة أحد, هذا في النهاية رأيي الخاص لا علاقة له بأي شيء, ولا يمكنني أن أنكر شيء لم يحرمه الإسلام, أقره ولكن لم يُجِبه… عكس إنكار الحجاب أو زعم عدم ذكره في الدين وإظهار ما لا يجب إظهاره, الذي هو مرفوض شكلًا وموضوعًا, وكل المحاولات البائسة التي تحاول أن تُنظِر له ولوجوده في الدين هي مجرد تأثُر غربي ومحاولة للي عنق الحقيقة… النموذجان المعرفيان لا يلتقيان… بكل سماتهما ومن ضمن تلك السمات (الحجاب).
Yorumlar
Yorum Gönder